لم يكن اللقاء مجرد مرور عابر لصوت قديم في ذاكرة الناس وإنما كان استعادة حية لزمن موسيقي شكّل ملامح جيل وفتح نافذة على التجربة الشخصية لفنان مضى في درب الطرب أكثر من ثلاثين عاما. وقد جاء عنوان السهرة "حبيت زماني" انعكاسا للتنوع الموسيقي الذي تميز به غازي العيادي في مسيرته، حيث اقتبسه من عنوان أشهر أغانيه وأنجحها جماهيريا "حبيت زماني" وأرادها أجمل خلاصة لمسيرته ومفتاحا قرأ به العيادي فصول حياته الفنية وأعاد بها ترتيب ذاكرة الجمهور.
افتتح العرض بأغنية "سيدي حبيبي" كتحية طربية أولى لذائقة تتعطش للصوت الصافي والإحساس الدافئ. وتوالت بعدها العناوين كقطلر يعبر محطات من مسيرة زاخرة بالإنتاجات من "شايفين عيونو" إلى "والنبي لو جاني" قبل أن يستقر في أغنية "عالعين"، حيث صدحت الكلمات كأنها تخرج من جوف نفق مظلم إلى النور الأبدي.
ومرّ العيادي أيضا بأغنية "أنا زي زمان" وكأنه يعيد تأكيد مبدئه في الوفاء لصوته وهويته، ثم وتوقف عند "بعترفلك" تلتها "مش طبعنا" التي مزجت بين الحنين والإصرار على حفظ القيم في زمن سريع التغير. وتواصل العرض بأغان حملت أوجها متعددة من الحب والوفاء منها "روحي فداك" و"حبيت زماني" التي كانت ذروة إيقاع العرض.
ومن اللحظات اللافتة في السهرة صعود الفنان الشاب أيمن لصيق ليؤدي إلى جانب العيادي أغنية "زمن المصالح" في ديو مشترك أعاد تأكيد فكرة العبور بين الأجيال التي لطالما عمل العيادي على دعمها سواء في أعماله أو عبر ألحانه. غير أن اللحظة الأشد تأثيرا والتي تحول معها المسرح إلى فضاء حميمي كانت حين دعا غازي العيادي شقيقه الأصغر معز العيادي للصعود إلى الركح ليؤديا سويا أغنية "رضاية الوالدين"، وذلك بحضور والدتهما الجالسة في الصفوف الأولى.
وانتقل العيادي إلى "زمن المصالح" التي بدت كمراجعة فنية واجتماعية لما تغير من ملامح العلاقات بين الناس، ليعرّج بعدها على "صبّرك عليا" و"سلطانة" قبل أن يختم بـ "نبوس يديا" و"للات البنات" وهي أغنية بدت أشبه بتحية أخيرة للمرأة التونسية في شتى تمثلاتها.
وكان عرض "حبيت زماني" في مجمله أشبه برحلة داخل الذات الموسيقية لغازي العيادي، وهي رحلة لم تكتف بإعادة تقديم الماضي وإنما طرحته مجددا في صيغة الحاضر. وبين تنقله من مقام إلى مقام ومن موضوع إلى آخر، بدا العيادي وفيّا لصوته ولجمهوره ولزمن أحبه وأحبه الناس فيه.
وجاءت هذه السهرة على ركح مهرجان الحمامات الدولي بمثابة ولادة جديدة، بحسب تعبير غازي العيادي الذي قال إنه لم يقبل عروضا أخرى قبل هذا العرض في الحمامات، لأنه أراد أن تكون هذه السهرة البداية الحقيقية في عودته لمصافحة جمهوره وعشاق أغانيه.
ويتواصل نبض الإيقاعات الموسيقية التونسية ضمن برمجة الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي، إذ يلاقي الجمهور في سهرة اليوم السبت 2 أوت أمير الطرب صابر الرباعي اسمه ضمن نجوم الطرب العربي المعاصر. وقد لفت الأنظار إليه منذ انطلاقته مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات بجديته وإحساسه الفني العالي. وهو ما مكّنه من بناء قاعدة جماهيرية واسعة في مختلف أنحاء العالم العربي.